الجمعة، 8 مايو 2009

فلسفة التوحيد منهج النظام التشريعي... د. وليد سعيد البياتي

قبل اكثر من عشرين عاما سألني احد اتباع المدرسة الوجودية عن التوحيد، فطلبت منه ان يأتني بأسم عالم في الفيزياء الذرية ينكر ان الذرة هي الوحدة الاساسية في التكوين، فكان في جوابه : " انه لايوجد عالم ينكر هذا الامر"، فكان ردي: " أي شيء اصدق من هذا على وحدانية الخالق المكون للوجود ؟". فإذا آمنا بوجود وحدة واحدة للتكوين، يكون بالضرورة أن نؤمن بوجود مكون واحد وهو الله تعالى شأنه. فالتوحيد هو ليس مجرد تلك العقيدة التي جاء بها الانبياء والرسل عليهم جميعا صلوات الله وسلامه، ولا هو مجرد موقف لتبرير مسألة الوجود، كما هو متعارف عليه لدى علماء الكلام، ولكنه البرهان على خضوع كل الموجودات للخالق الموجد لها خضوعها له بالعبودية، وشهادتها له بالوحدانية، فقد شهد الله على نفسه بوحدانيته في قوله عزوجل: ( شهد الله أنه لا إله ألا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لآ إله إلا هو العزيز الحكيم ) آل عمران / 18. فهذه الاية الشريفة تضع أسس فهمنا لفلسفة التوحيد وعلاقته بالوجود، ففلسفة التوحيد جاءت لتفسر كل العلاقات التشريعية والتكوينية وتفاعلاتها في حياة الانسان، وهكذا تصبح العلاقة بين التوحيد والتشريع علاقة عضوية. حقيقة أن التوحيد هي العقيدة الاولى التي جاءت بها الرسالات السماوية لتضع بذلك أسس الوجود والتكوين والتشريع، لكن هذه الحقيقة لاتقف عند هذا الحد كما قلنا بل انها جائت أيضا لتكون منهجا لعلية الوجود، وهي بالتالي تفسر غائية المنهج الالهي في عملية الخلق: " وما خلقت الانس والجن إلا ليعبدون" الذاريات/56. لتصبح العبادة والتعبد لله احدى عليات (أسباب) الوجود، والله تعالى شانه هو من أظهر نفسه بالوحدانية فقال" قل هو الله احد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد ". الاخلاص/. ليصبح التوحيد ليس وصفا لغويا او معنى فلسفيا، بل ليكون منهجا عقائديا في العبادة، فالله هو وحده الذي تحق له العبادة، لتبطل بذلك مناهج التثنية والتثليث، ولتنفي وجود شريك أومثيل، ولترسخ فلسفة علاقة العقيدة بالحياة عبر مناهج التشريع، باعتبار ان النظام التشريعي الاسلامي يتاسس عند عقيدة التوحيد. فالمنطق العقلي يحكم بتعدد مناشيء التشريع في حالة تعدد مناشيء الوجود، ومن هنا قال الحق سبحانه: " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، فسبحان الله رب العرش عما يصفون" الانبياء/21-22. فتعدد الالهة سيعني تعدد مناشيء التشريع، مما يطرح وجوب التباين والتناقض المؤديان الى الفساد وفناء الخلق لتضارب المناشيء، فالموقف من التوحيد هنا ليس موقفا ميتافيزيقيا لكنه موقف واقعي، كما انه ليس موقفا فلسفيا مجردا، فحتى فكرة التعالي (التوحيد) عند الفلاسفة لاتكتسب واقعيتها إلا عبر الايمان بوجود الله، ومن هنا سنجد ان الفكر الفلسفي غير المرتبط بالتعالي ( التوحيد) هو فكر مستغرق في آنيته، وهو فكر غير مستقبلي في طروحاته. فالايمان بعقيدة التوحيد يعني أن تصبح عقيدة التوحيد تنظيرا مستقبليا للوجود، إذ لايمكن للوجود الكلي ان يوجد و يستمر دون عقيدة التوحيد، ففي فلسفة التاريخ مثلا باعتبارها نظرة شمولية الى التاريخ تعاصر الماضي والحاضر وتلقي نظرة على المستقبل، فهي تحتاج الى مفاهيم التعالي (التوحيد) حيث يمكن للانسان ومن خلال الوحي والسنن أن يدرك قيمة حركة الحياة، وبالتالي يدرك حدود ربط التوحيد بالشريعة. فالعلاقة بين الحياة والشريعة علاقة تلازمية، فالشريعة لازمة لاستمرار حركة الحياة، إذ لايمكن ان توجد للحياة قيمة دون التشريع، وهذا الاخير لايكون له قيمة إلا بالتوحيد.

فلسفة التوحيد من موقف علاقة الانسان بالله:
يتباين الموقف الفلسفي من علاقة الانسان بالله بين اصحاب العقائد والديانات، اعتمادا على نوع العلاقة وطبيعتها، فهل هي علاقة صاعدة (من الانسان الى الله أو ما يعرف فلسفيا بالجدل الصاعد والتي هي حركة الفكر المصاحبة لارتقاء النفس من عالم الماديات المتغيرة الى عالم المثل العليا ألذي هو الله تعالى شأنه) أم علاقة هابطة (من الله الى الانسان او ما يعرف فلسفيا الجدل الهابط أي الرجوع من عالم المثل العلوية أو الابدية – الله – الى العالم الارضي او الدنيوي) والجدل الهابط في الاصل هو نتاج لرؤيا افلاطونية قال بها بعد ذلك الفيلسوف (هيكل) تفسر موقفه من علاقة الانسان بالله، وتقول بحلول العقل الكوني أو الله في حركة التاريخ، حتى اصبح الله والتاريخ كيانا واحدا كما يرى هيكل في ذلك الوقت، وقد ادت هذه المفاهيم الخاطئة الى ظهور فكرة الحلول في بعض مسارات الفكر الديني. وقد تبنت كلا من الديانتين المسيحية واليهودية فكرة الحلول فالمسيحية ألهت السيد المسيح عليه السلام، منطلقة من رؤيا (الجدل الهابط) فجعلت من المسيح الها هبط الى الارض في شكل مولود ليخلص البشرية من آثامها، ( حيث جعلته ابنا لله حاشا الله الواحد عن ان يكون له ولد حسب مبدأ التثليث الذي تتبعة معظم الكنائس المسيحية – فكرة الآب والابن والروح القدس-). وقالت اليهودية ببنوة العزير عليه السلام، مما ينقض فكرة التوحيد لدى الديانتين السابقيتن وبالتالي ستتعدد المناشيء الاولية للتشريع وفق هذه الرؤيا الثنوية في اليهودية، أو التثليثية كما في المسيحية. وتعدد المناشيء سيعني إختلاف الشرائع وتباين الاحكام مما يوقع الخليقة في أشكاليات لا متناهية.

أما العقيدة الاسلامية فتحدد رؤيتها من علاقة الانسان بالله إنطلاقا من( الجدل الصاعد) أي من الانسان الى الله، حيث يصبح التعبد (بمختلف اشكاله وحالاته) الشكل الوحيد لاتجاه هذه العلاقة ، فالمسلم يتحرك في عبادته باتجاه الله الواحد باعتباره الوحيد الذي يستحق العبادة، وباعتباره الموجد الاوحد والمشرع الاوحد في آن، والشريعة تضبط حركة الانسان لتضمن بقآءه على الخط الرسالي، كما إن حركة الانسان الى الله تفسر تطلع الانسان (النسبي) الى المثل الاعلى (المطلق أي الله تعالى)، فالانسان في عمل دؤوب للتخلص من الاشكال السلبية في علاقته عبر العبادة والعمل الصالح وصولا الى المعرفة الكلية أو حق اليقين، والانسان في حركته هذه يسعى الى تحقيق خلافة الانسان على الارض عبر التطبيق الواقعي للشريعة السماوية، فالشريعة جاءت لتبين السبل في تصاعد الفكر الانساني وتسامي النفس نحو المثل العليا. من هنا نرى أن موقف الانسان المسلم من التوحيد ينطلق من مفهوم أنه لاعبثية من وجود الوجود،" أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم الينا لاترجعون" المؤمنون/115 إذ ان اي مفهوم لايقول بوحدانية الله يقع في دائرة العبث واللامعقول وهي حالة تتناقض تناقضا اصيلا مع عقلانية التوحيد. وهكذا فالاسلام لايبني فكرته في التوحيد على أسس طوباوية، او عبثية، فعقيدة التوحيد عقيدة واقعية، يمكن التأصيل لها عبر كل طرائق الحياة. قد يفسر البعض تلك الثنائية المستمرة في الوجود ( الليل والنهار، الذكر والانثى، الشمس والقمر، الخير والشر... الخ) بانها نتاج لتعدد الالهة كما فسرها اصحاب التثنية من المانوية ( المانوية أو المنانية: نسبة الى ماني بن فتك المولود في بابل سنة 216 م وقد حاول ان يربط بين ديانته والديانات المسيحية والبوذية والزرادشتية وكان يعتبر بوذا وزرادشت والمسيح أسلافا له، ووضع لنفسه انجيلا، واتباع ماني هم من يسمون بالزنادقة) سابقا، ولكن الفكر الاسلامي الفلسفي يعتبر كل هذه الاشكال برهانا على وحدانية الخالق، فمثلا هل انفصل الليل عن النهار انفصالا واقعيا، بحيث كان هناك ليلا لوحده ونهارا لوحده؟ فحركة الزمن تكشف انه من الاستحالة في حالة الحياة ان يحدث هذا الانفصال، بل انه لايوجد منهج واقعي لحدوثه، فالليل والنهار في تتابع مستمر، يتوالد احدهما من الاخر كنتاج للحركة الكونية. والمرأة والرجل يشتركان في الصفات الاصلية وقد برهن علم الجينات أن كل منهما يحمل شيئا من جينات الاخر فلا انفصال خلقي بينهما. وكذلك الشمس والقمر، والخير والشر، فالحياة في تلاقح مستمر بين موجوداتها والوجود الكلي يحكم بالتنوع لكنه تنوع يتوحد في الاصل الاولي مؤكدا وحدانية الموجد لكل الموجودات وهو الله تعالى شأنه. ولا يخفى ان بعض المدارس الاسلامية قالت بالحلول كأحد اشكال اتجاهاتها الصوفية مثل عقيدة الحلاج ( هو ابو المغيث الحسين بن منصور الحلاج وهو اشهر من قال بمبدا الحلول والاتحاد ت 309). غير ان هذه العقائد قد انتهت لانها تبنت قيما سفلى، ولانها فشلت في تفسير العلاقة بين الانسان والله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق